كيف نقارب تبنّي ترامب مشروع تهجير الغزيين؟
للمرة الثانية تبدأ ولاية دونالد ترامب الرئاسية بمشهد صاخب. لا تكاد تعكف على تحليل وفهم قراراته وأوامره التنفيذية الجدلية حتى يعاجلك بقرارات متتابعة أخرى. يخال لك للحظة أنّ هذا السبعيني يملك قدرات خارقة في التركيز على أكثر من قضية وملف ومسار، لكن بالنظر إلى ما يُظهِره في خطابه من ثقافة سياسية وفكرية، الرجل قاصر ويفتقر إلى الميّزات اللازمة لهذا التصنيف. طبعاً، هناك ما يمكن أن يفسّر جنون قراراته، التي لن يكون آخرها قراره بالسيطرة على غزة وتهجير أهلها.
صحيح أنّ هناك ما يشبه الإجماع على أنّه من الصعب توقُّع ما يمكن أن يقرّره ترامب، وأنّ شخصيته معقّدة بعض الشيء، وفي كثير من الأحيان يميل المقيّمون إلى وصف سلوكه بـ«الجنون»، إلا أنّ جنونه الذي يتمظهر في سلوكه وقراراته فيه شيء من الـ«فنون». المفتاح يكمن في البحث ضمن فريقه والمحيطين به، من الذين يملكون صفة المنظّرين لتياره. أحد هؤلاء، وربما أهمّهم، هو ستيف بانون، الذي شغل منصب كبير مستشاريه في بداية ولايته الأولى، وقيل بأنّه طرده من إدارته بعد سبعة أشهر، لكن الحقيقة هي أنّ بانون بقي كمستشار غير معلن، وذراع التيار اليميني الأميركي في أوروبا.
ما يميّز ستيف بانون هو أنّه بالغ الصراحة عند التعبير عن أساليب مواجهة الدولة العميقة الأميركية، أو من يسمّيهم «معسكر المنظومة». في مقابلة أجرتها معه قناة PBS لبرنامج FrontLine في آذار عام 2019، فسّر بانون خلفيات إصدار سلسلة من الأوامر التنفيذية المتعدّدة والجدلية في الأسابيع الأولى من ولاية ترامب، عبر الكشف عن تكتيك سمّاه muzzle velocity أو ما يمكن ترجمته إلى «السرعة الفوّهية».
بحسب بانون، التكتيك بالدرجة الأساسية يعمل على التأثير وإعادة توجيه وسائل الإعلام التي يصفها بـ«حزب المعارضة»، فهي – من وجهة نظره – تتلهّى بقرار واحد وتعمل على تحليله وفحص تداعياته على حدة، بينما تكون إدارة ترامب في وسط عملية إغراق تبدأ منذ دخوله رسمياً يوم 20 كانون الثاني إلى المكتب البيضاوي. ومنذ البداية وبسرعة، يقول بانون «نقوم بضربهم بثلاثة أشياء [أوامر تنفيذية]، بحيث ندفعهم للالتهاء بالإضاءة على واحد منها، بينما نقوم بتمرير ما نريده في قرارات أخرى».
يعتبر بانون أنّ السر لنجاح التكتيك يكمن في التحرّك بسرعة «الفوّهة»، بحيث «يبقى الخصوم مشلولين غير قادرين على فعل أي شيء في المقابل». هذا بالضبط ما يفعله ترامب منذ 20 كانون الثاني الفائت؛ في كل يوم أو يومين هناك أكثر من أمر تنفيذي يوقّعه، أو إعلان مثير للجدل يصرّح به، كإعلانه الذي يعنينا نحن في المنطقة وهو قراره بـ«السيطرة على قطاع غزة» وتهجير سكانه.
لتفسير خلفيات قرار ترامب وما يخفيه من مشروع لغزة، لم يكشف عن تفاصيله حتى الآن، ينبغي طرح وجهات نظر متعدّدة، وعدم استبعاد أي احتمال أو سيناريو قد يكون قيد الصياغة وراء الكواليس. أولاً، إذا ما انطلقنا من فرضية أنّ إعلان ترامب حيال غزة وشعبها ليس مناورة أو يقع ضمن تكتيك «السرعة الفوهية» لخدمة مآرب أخرى، فالافتراض سيأخذنا إلى تبنّي الفكرة المنطقية التالية: ما يحاول الصهاينة فعله عبر ترامب يمكن تفسيره بما يُسمى مفهوم «المعالجة بالصدمة»، الذي هو مذهب رأسمالية الكوارث، القائم على استغلال كارثة ما، وهنا في حالة غزة الكارثة كانت حرب الإبادة، من أجل تمرير سياسة التطهير والتهجير الجماعييْن، التي يرفضها الغزيون في الحالة الطبيعية، فكيف سيكون الحال بعد دمار 80% من مساكن القطاع؟
يواجه الرئيس الأميركي صعوبة في فرض توسيع «اتفاقات أبراهام» ومشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي
هذه الفكرة هي في الأساس فكرة «صنم النيوليبرالية» الاقتصادي الأميركي الصهيوني ميلتون فريدمان، الذي نظّر لنقل مبدأ الصدمة من الأفراد إلى الشعوب عبر الكوارث، كي تقبل بـ«التغيير». لكن ما يفوت المخطّطين للفكرة، التي تبنّاها وأعلنها ترامب، هو أنّهم يغفلون أمراً مهماً وأساسياً: فكرتهم مصمَّمة بناءً على تجارب شعوب تختلف تجاربها وهويتها عن هوية الشعب الفلسطيني. هم يفترضون أنّ هذا الشعب شأنه شأن السكان الأصليين في أميركا، الذين سُمّوا بـ«الهنود الحمر». شعب فلسطين ليس شعب «الهنود الحمر» ولن يكون كذلك. هو شعب له عقيدته ومنظومته القيَمية التي ستهزم في كل مرة مخططاتهم ومشاريعهم.
أمّا الاحتمال الآخر، وهو ما يمكن ترجيحه، فهو يقع في صلب تكتيك «السرعة الفوهية». يواجه الرئيس الأميركي صعوبة في فرض توسيع «اتفاقات أبراهام» ومشروع التطبيع السعودي – الإسرائيلي، بالنظر إلى التصلّب في الجانب الإسرائيلي، حيث يتعنّت اليمين الصهيوني الديني برفض الموافقة على مجرد نقاش فكرة الدولة الفلسطينية، ومن الجانب العربي، ما أفضت إليه نتائج حرب الإبادة على غزة من حرج على النظام الرسمي العربي، حيث اضطُر خلالها محمد بن سلمان إلى رفع السقف عالياً بالعودة إلى المطالبة بالدولة الفلسطينية على حدود 1967. بقي الموقف الرسمي السعودي حيال الدولة الفلسطينية هو نفسه بعد اتفاق وقف إطلاق النار، لكن مع بدء ترامب بالحديث عن تهجير الفلسطينيين من غزة، قبل سفر نتنياهو إلى واشنطن للقائه، بدأ السعوديون في بياناتهم بإضافة جملة إضافية لشرط الاعتراف الإسرائيلي بالدولة الفلسطينية كثمن للتطبيع.
في 3 شباط الجاري، نشرت القناة 12 العبرية نقلاً عن مصدر سعودي قوله: «لا تقدّم نحو التطبيع بدون استعداد إسرائيل للتقدُّم نحو حل الدولتين، ورفض التهجير من غزة». أصبح رفض التهجير شرطاً يُضاف إلى الشرط القديم الخاص بالاعتراف بالدولة، مع أنّ محمد بن سلمان كان قد أعلن تخفيفه في أيلول 2023 في مقابلته مع قناة «فوكس نيوز» عندما قال: «لدينا مفاوضات متواصلة حتى الآن. وعلينا أن نرى إلى أين ستمضي. نأمل أن نصل إلى مكان تسهل فيه الحياة على الفلسطينيين».
هنا ينبغي التذكير ببعض الوقائع التي سبقت إعلان تطبيع كل من الإمارات والبحرين مع كيان العدو في آب 2020. بين 28 كانون الثاني 2020 تاريخ إعلان ترامب رسمياً عن «صفقة القرن» من البيت الأبيض فيما كان نتنياهو آنذاك يقف إلى جانبه، وتاريخ 13 آب 2020 عندما صدر ما سُمّي «الإعلان الأميركي-الإماراتي-الإسرائيلي» لتطبيع العلاقات بين أبو ظبي وتل أبيب، كان العرب بحكوماتهم وشعوبهم قد استكملوا إعلان استنكارهم ورفضهم لصفقة القرن. لكن في ربيع ذلك العام، كان مسؤولون من إدارة ترامب وحكومة نتنياهو يعقدون سلسلة اجتماعات، ضمن لجنة شُكِّلَت للتدقيق في خرائط لمناطق في الضفة الغربية يمكن لإدارة ترامب إعلان الموافقة على ضمّها إلى كيان العدو.
قبل اقتراب موعد الإعلان عن التطبيع الإماراتي الصهيوني بأسابيع قليلة، كان النقاش يتمحور حول قرب إعلان نتنياهو قرار ضم غور الأردن إلى «أراضي إسرائيل». هنا عادت الإدانات وإعلانات الرفض لتصدر، ليتبيّن حينها في بيان إعلان التطبيع أنّ الغطاء الذي تلطّت خلفه الإمارات لتبرير تطبيعها كان أنّها أخذت تعهّداً وضمانة أميركييْن بمنع ضم غور الأردن إلى الكيان.
من هنا، تبرز فرضية اعتماد ترامب تكتيكاً مماثلاً، يسعى لإدخال شعوب منطقتنا في موجة من الاستنكار والإدانة لإعلانه تبنّي مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة، وعلى مدى أسابيع أو أشهر قادمة، إلى أن يظهر ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على «حصان أبيض» معلناً إسقاط تطبيعه مع الكيان مشروع التطهير العرقي والجماعي للفلسطينيين من غزة. تجدر الإشارة إلى أنّه خلال حرب الإبادة على غزة، حاول أنطوني بلينكن أكثر من مرة استعمال ورقة التطبيع بين السعودية والكيان كمدخل لإنهاء الحرب، بحيث تظهر السعودية على أنّها نجحت بحقن دماء الفلسطينيين بـ«دبلوماسية التطبيع»، فيما فشلت إيران ومن معها بإيقافها بالإسناد العسكري.
* باحث